إيران وإسرائيل- صراع المصالح المتضاربة على الفراغ العربي.

عنوان المقال يلمح إلى جدال دائم ومستمر بشأن إيران، وأهدافها المتنوعة، وأدوارها المختلفة، وممارساتها السياسية والعسكرية. يكاد يكون من المستحيل العثور على تصور موحد لدى العرب بخصوص أي شيء يتعلق بإيران، حتى في الأمور الواضحة كالمذهب الشيعي "الاثنا عشري". حتى هذا الجانب الواضح يشهد خلافًا عربيًا واسعًا، بين من يعتبره عقيدة تحرض على العدوان والتوسع والدعوة، وبين من يراه مذهبًا يختلف عن المذاهب السنية الأربعة في العبادات فقط.
في ظل هذه الظروف، يتضح مدى صعوبة أن يعكس هذا المقال الموقف العربي الموحد وتصوره لإيران. مع ذلك، هو محاولة لعرض أحد التصورات على الأقل، من أجل إثراء النقاش، خاصة وأن المقال يركز تحديدًا على العلاقة بين إيران وإسرائيل، وهي علاقة لطالما أثارت الجدل في العالم العربي، مع وجود طيف واسع من الآراء. بعض هذه الآراء تذهب بعيدًا، معتبرة هذه العلاقة مجرد مسرحية مكشوفة، ظاهرها العداء وباطنها التعاون والانسجام، وتصل إلى حد اعتبارها علاقة ودية تجمع النظامين الإيراني والإسرائيلي. في المقابل، هناك آراء أخرى ترى أنها علاقة عداء مطلق، حيث لا يقبل أي طرف بوجود الآخر على الإطلاق. وبين هذين النقيضين تتشتت الآراء بشكل يصعب حصره.
إيران لا تطمح إلى توسع جغرافي في المنطقة، وما يميز شخصيتها وهويتها يجعل "التطبيع" في المناطق العربية أمرًا مستبعدًا؛ بسبب الحواجز المذهبية واللغوية.
من هي إيران؟
لقد رسخت إيران هويتها الثقافية والدينية من خلال تضمين ذلك في دستورها. ففي المادة الثانية عشرة، ينص الدستور على أن "الدين الرسمي لإيران هو الإسلام، والمذهب الجعفري "الاثنا عشري"، بينما تؤكد المادة الخامسة عشرة أن "اللغة والكتابة المشتركة لشعب إيران هي الفارسية".
بهاتين الخصيصتين، ميزت إيران نفسها عن جوارها العربي ومحيطها الإسلامي، وذلك من خلال تميزها بمذهب ولغة مختلفين، وبذلك وضعت محددات ثقافية لهويتها القومية.
ومع ذلك، أضافت إيران بعدًا حركيًا تبشيريًا يسمح لها بالتحرك خارج حدود هويتها. فهي تسعى، كما جاء في ديباجة دستورها، إلى "توسيع نطاق الثورة داخل البلاد وخارجها مع سائر الحركات الإسلامية والشعبية، حيث تطمح إلى بناء الأمة الواحدة في العالم".
لم تتخلَ إيران عن شعورها بأنها امتداد للإمبراطورية الفارسية العريقة، وهذا ليس أمرًا مستغربًا. فهي تستحضر هذا التاريخ وتعتز به وتتوق إليه من خلال فنونها وثقافتها الشعبية وأشعارها. على الرغم من أن العرقية الفارسية تمثل حوالي 55% فقط من المجتمع الإيراني، إلا أن الهوية الفارسية حاضرة بقوة في الوجدان الإيراني.
تم دمج الإسلام في الهوية الفارسية ليصبح جزءًا لا يتجزأ منها. تعتبر إيران الإسلام مكونًا تحترمه، لكنه مكون وافد اقتحم حضارتها عنوةً في القرن السابع الميلادي، على عكس العرب الذين قال قائلهم في أول مواجهة مع الإسلام: "خلّوا بين محمد والناس، فإن ظهر عليهم فعزّه عزّكم".
إن التقبل الشعوري للإسلام يختلف بين الإيرانيين والعرب. تتأكد هذه المسألة عندما يكون العامل الإسلامي، من منظور حضارة معينة، عامل هدم لتاريخ وقيام تاريخ آخر، بدلاً من كونه مجرد نقطة تحول وبناء على عناصر موجودة أصلًا.
أعتبر هذه المحاولة لفهم هوية الدولة الإيرانية مدخلًا ضروريًا لفهم تأثير هذه الهوية على سلوكها الثقافي والديني والسياسي والعسكري. كما أنها مسألة مهمة لمعرفة كيف ينظر الآخرون إلى إيران، سواء كانوا الغرب وأميركا عمومًا، أو حتى إسرائيل، بغض النظر عن الخلاف حول طبيعة العلاقات الإيرانية مع الآخرين، سواء كانت مسرحية أو جدية.
إذن، نحن نتحدث عن دولة ذات هوية فريدة ومختلفة عن محيطها تاريخيًا وثقافيًا ودينيًا. هذا التمايز انعكس على سلوكها وتحركاتها في جوارها، خاصة في المنطقة العربية، وفي تعاملها مع الآخر البعيد، وتعامله معها. لذلك، لا يجوز لنا أن نقيس أو نتوقع السلوك الإيراني بناءً على مقاييسنا ومنطلقاتنا ونظرتنا للأحداث في المنطقة.
إيران والجغرافيا السياسية
إذا استرجعنا التاريخ لسؤال الإمبراطورية الفارسية عن سلوكها السياسي والعسكري، فسيخبرنا أن إيران الفارسية لم تكن دولة توسعية بمعنى الاحتلال المباشر والدائم للآخرين و "فرسنة" ثقافتهم. بل كانت تعتمد غالبًا على إرسال "خبراء عسكريين" لمساندة أهل بلد ما للسيطرة على بلدهم، كما حدث في اليمن في القرن السادس الميلادي عندما أرسل الساسانيون فرقة عسكرية لدعم سيف بن ذي يزن لاستعادة حكم اليمن من الأحباش الموالين للرومان المسيحيين. أو من خلال دعم حكومات موالية في المناطق المجاورة، مثل مناذرة العراق. لكن غزواتها البعيدة كانت عبارة عن فترات قصيرة غير مستقرة، كان هدفها الأساسي ليس الاستقرار، وإنما مواجهة التهديدات الإستراتيجية التي كان يمثلها الرومان في تلك المناطق.
لقد استوعبت إيران الحديثة هذا السلوك، والذي يمكن ملاحظته من خلال تحركاتها في المنطقة العربية في عصرنا الحالي. إيران لا تسعى للتوسع الجغرافي في المنطقة، وما حددته لشخصيتها وهويتها يجعل "التطبيع" في المناطق العربية أمرًا مستبعدًا؛ بسبب الحواجز المذهبية واللغوية. إضافة إلى ذلك، فإن قدرات إيران المادية ومواردها لا تسمح لها بتحقيق ذلك. لقد أدركت إيران الحديثة ما أدركته إيران القديمة من واقع محيطها، وتعاملت معه بنفس الطريقة.
تعتبر إيران أنها محصنة بموقعها الجغرافي الذي يعزل فيه الخليج العربي حدودها مع المحيط العربي، باستثناء بوابة عربية شرقية حرصت إيران عبر التاريخ على أخذها في الحسبان، إما بإضعافها حتى لا تسمح بأي توغل عربي في هضبتها، أو باحتوائها من خلال من يواليها. أما ما تعتبره إيران "خللًا تاريخيًا" بوجود عربي كبير في حدودها التاريخية في الأحواز ذات الغالبية العربية، فقد تم احتواؤه من خلال إنهاء الحكم العربي لهذه المنطقة الذي استمر 1200 سنة؛ بإنهاء الدولة الكعبية سنة 1925 ميلادية، وضمها في إطار الدولة الوطنية الإيرانية.
لقد اكتفت إيران عبر التاريخ وحتى اليوم بتواجدها الفارسي في هضبة إيران، وتحصنها في هذه الجغرافيا، والتحرك في المحيط بحذر وبشكل غير مباشر، مستغلة معطيات الجوار، واللعب في هوامشه وإشغاله بنفسه، واستعمال موارده في تحقيق هدف حمايتها عبر خوض المعارك بعيدًا عن الداخل الإيراني.
كيف يرى الغرب وأميركا إيران؟
بدايةً، لا يخفى على المراقب أن تعامل الغرب وأميركا مع إيران بدأ باستضافة فرنسا لمؤسس إيران الإسلامية -الخميني- حتى هبط بطائرته في إيران فاتحًا، مرورًا بالمفاوضات النووية الإيرانية الغربية التي استمرت قرابة العشر سنوات، وانتهاءً – مؤخرًا- بإعلام إيران للغرب وأميركا باعتزامها توجيه ضربة عسكرية لإسرائيل قبل أيام.
يظهر هذا التعامل بشكل مختلف تمامًا عن تعامل الغرب وأميركا مع أي بلد عربي. ففي المثال النووي نفسه، نجد الضوء الأخضر الغربي الأميركي لإسرائيل للمبادرة بضرب المفاعل النووي العراقي سنة 1981، وقصف أميركا لمصنع الشفاء في السودان سنة 1998، بالإضافة إلى نزع أسلحة ليبيا في 2003. هذا يوضح الفرق بين الأسلوب الغربي الأميركي "المتروي" مع إيران، مقابل المبادرة بالعدوان دون تمهّل مع أي بلد عربي.
هذا المثال لا يوضح الاختلاف في تعامل الغرب مع الشأن الإيراني والعربي فحسب، وإنما يشير أيضًا إلى اختلاف النظرة لدى الغرب وأميركا تجاه إيران والعرب. فإيران في عيون الغرب هي تلك الحضارة الفارسية التي عارضتهم وخاضت صراعًا معهم في منطقتنا العربية منذ ما يقارب ثلاثة آلاف سنة.
إيران هي دولة تسعى لتقاسم المنطقة رعايةً لمصالحها لا للاستئثار بها، وهي دولة أطّرت نفسها وميزتها عن محيطها العربي والإسلامي بعاملين محددين غير قابلين للتوسع والانتشار. كما أن حراكها التبشيري لم يتمكن من اختراق الوسط الإسلامي السني، فضلًا عن أن يشكل مشروعًا حضاريًا يمكن أن يمثل تحديًا للغرب، كما كان العالم المسلم السني طوال 1400 سنة.
هنا نلاحظ أن الغرب يرى في إيران ما تراه إيران في نفسها، دولة تسعى لمصالحها بهوية مختلفة ومصالح "مشروعة"، في ظل فراغ عربي، وفي حدود مقبولة يمكن التفاوض حولها.
إيران والقضية الفلسطينية
لا يمكن إنكار الأهمية البالغة التي توليها إيران للقضية الفلسطينية وارتباطها الوثيق بها لاعتبارات عدة، من أهمها الاعتبار الديني. فإيران التي يمثل الإسلام جزءًا رئيسيًا في هويتها – وإن كان بمفهوم شيعي "الاثنا عشرية"- تعتبر القضية الفلسطينية، وفي قلبها المسجد الأقصى، قضية مقدسة ذات ارتباط عقائدي. ولكن في الوقت نفسه، هذه القضية، على أهميتها في المنظور الإيراني، تعاني من نقص لاعتبارين أساسيين بالنسبة لإيران أيضًا.
الاعتبار الأول: البعد القومي
البعد القومي الفارسي الحاضر بقوة في الهوية الإيرانية والمؤثر في تحركاتها السياسية والعسكرية والاستراتيجية يغيب في القضية الفلسطينية. فلسطين – شعبًا وأرضًا وتاريخًا وجغرافيةً وثقافة وحضارة- عربية خالصة، وهذه الهوية للقضية الفلسطينية ليست ضمن المكون الهوياتي لإيران، وبالتالي تتضاءل النظرة الإيرانية في هذا الجانب تجاه القضية الفلسطينية.
الاعتبار الثاني: البعد الإستراتيجي
وفي هذا الاعتبار يكمن الإشكال الأكبر لخضوعه لموازين المصالح المتغيرة لا الثوابت العقائدية الثقافية. إيران هي ثاني دولة ذات أغلبية مسلمة – بعد تركيا – اعترفت بدولة إسرائيل، وأقامت معها علاقات متميزة لعقود في ظل حكم الشاه. لكن في عهد الجمهورية الإيرانية بعد ثورة الخميني على الشاه، ساءت العلاقة حد القطيعة والتصريحات الرسمية العدائية بين الدولتين، كما وصلت إلى حد العمليات العسكرية المباشرة؛ إما بالأعمال الاستخباراتية والاغتيالات المتبادلة، وإما من خلال أدوات إيران وأذرعها أو حلفائها في المنطقة، وأخيرًا قبل أيام بقصف انطلق من أراضيها تجاه إسرائيل.
هذا الاعتبار الثاني، الذي يضفي حالة من الغموض وعدم الاستقرار على الموقف الإيراني تجاه إسرائيل، يظهر من خلال محاولة إيران الموازنة بين عداوتها العقائدية لإسرائيل وبين مصالحها الاستراتيجية. ففي الوقت الذي تسلح إيران وتدعم بكل قوة ذراعها العسكري العربي حزب الله اللبناني، والذي يظهر العداء الصريح لإسرائيل، نجد إيران عبر مساعد وزير خارجيتها حسين أمير عبد اللهيان يصرح في أكتوبر/تشرين الأول 2014 بقوله: "قمنا بنقل هذه الرسالة بصورة جيدة لأميركا، إذا كان من المقرر أن تجري سياسة تغيير النظام السوري عبر أداة مكافحة الإرهاب، فإن الكيان الصهيوني لن ينعم بالأمان". هذا الموقف الإيراني ينسجم مع الموقف الذي اتخذته إسرائيل من النظام السوري بقيادة بشار الأسد، حيث كان واضحًا الموقف الإسرائيلي بعدم الدعم أو التأييد بأي شكل لإسقاط النظام السوري. بل إن نتنياهو، وعبر صحيفة هآرتس الإسرائيلية في 2018/7/12، صرح قائلًا: "ليست لدينا مشكلة مع نظام الأسد، فعلى مدى أربعين عامًا لم يتم إطلاق رصاصة واحدة من مرتفعات الجولان".
هذا المثال، الذي يوضح التقاء المصلحة الاستراتيجية الإيرانية – الإسرائيلية في الحفاظ على نظام بشار الأسد في سوريا، يبين للمتابع أن العداء العقائدي لا يمنع إيران من أن تلتقي مصلحتها استراتيجيًا مع إسرائيل في بعض الأحيان، وربما هذا مفهوم ومبرر في المجال السياسي وتوازناته، لكنه أيضًا يطرح سؤالًا مهمًا: ما هي رؤية إيران الإستراتيجية تجاه إسرائيل؟ وما هي نظرة إيران الإستراتيجية للمنطقة العربية التي تسمح لهذه المصلحة المشتركة مع إسرائيل بأن تتحقق؟
نظرة إيران لإسرائيل
بعد أن أوضحنا العداء العقائدي الإيراني لإسرائيل، مع وجود اختلال في هذا العداء في اعتبارَيه الثقافي والإستراتيجي، يجب علينا أن نحاول فهم الرؤية الإستراتيجية الإيرانية التي تنظر من خلالها لإسرائيل في ظل واقع المنطقة العربية، ثم نبحث عن تلك المساحة المشتركة التي يمكن أن يلتقي عليها "العدوّان".
لا يخفى على إيران ولا على غيرها الطبيعة الاستعمارية للدولة الإسرائيلية. إسرائيل هي كيان مصطنع في المنطقة العربية بأيدٍ استعمارية غربية ترعاها حتى اليوم. هذه الطبيعة الاستعمارية لدولة إسرائيل تحقق أهدافًا خاصة لليهود وغايات عقائدية بطبيعة الحال، وهي في الوقت نفسه قاعدة عسكرية واستخباراتية متقدمة للغرب عمومًا وأميركا خصوصًا في المنطقة العربية. ولا دليل على ذلك أكثر وضوحًا من تصريح قديم سنة 1986 – كرره الرئيس الأميركي مؤخرًا- قائلًا: "إسرائيل أفضل استثمار فعلته أميركا في الشرق الأوسط بثلاثة مليارات دولار، ولو لم تكن هناك إسرائيل لكان على الولايات المتحدة أن تخلقها لحماية مصالحنا في المِنطقة".
إن إيران تدرك هذه الطبيعة لدولة إسرائيل، وأنها ممثل للمصلحة الغربية عمومًا والأميركية على وجه الخصوص – وإن كان لإسرائيل مصالح إضافية خاصة-. وعلى هذه القناعة الإيرانية بالدور الإسرائيلي، نجد أن الخطاب الإيراني ضد إسرائيل غالبًا ما يوجه لأميركا بالأصالة، ثم يذكر إسرائيل بشكل ثانوي. وهذا الخطاب السياسي الإيراني يعبّر عن حقيقة النظرة الإيرانية لإسرائيل، ومن ثم أسلوب تعاملها معه.
ترى إيران أن وجودها التاريخي الأصيل في المنطقة يبرر لها البحث عن مصالحها الاستراتيجية خارج حدودها في المنطقة العربية. وتقبل إيران أن تكون المنطقة العربية محل نزاع مع متنافسَين تاريخيَين آخرَين هما الغرب وأميركا، وهي بذلك تقبل الصراع معهما حول المنطقة، وتأخذ ما تستطيع منها، وتقبل بأن الآخر "الغرب" يأخذ ما يستطيع، لكنها غير متقبلة فكرة أن إسرائيل الدخيلة تكون جزءًا من هذه المنطقة أصلًا حتى تنافس أصالة عن نفسها لتحقيق مكاسبها.
إذن، إيران تنظر لإسرائيل كأداة للمصلحة الغربية أولًا، وثانيًا كعنصر دخيل لا شرعية له في منطقة نفوذها التاريخي. وهي نظرة استصغار لإسرائيل مهما بلغت مشاغبة إسرائيل وتحريضها ضد إيران، وعليه لا تستعجل إيران الحرب مع إسرائيل ولا يهمها كثيرًا التخلص منها، لكن يهمها بالدرجة الأولى والأخيرة أمران مهمان:
- الأول: إن كانت إسرائيل يد الغرب الضاربة في المنطقة، فلا مانع من ملاعبتها؛ طمعًا في التوصل – من خلال الضغط والمضايقة لهذه اليد الاستعمارية- للتفاوض مع المستعمر الأصليّ. فكلما ضايقت إيران إسرائيل كان الغرب أكثر رغبة في التوصل مع إيران لاتفاق يقلل أو ينهي -إن أمكن- هذه المضايقات الإيرانيةِ لإسرائيل حتى تتمكن إسرائيل من تنفيذ الأهداف الاستعمارية لوجودها، دون إزعاج بكل الوسائل الممكنة، ومنها "التطبيع" مع النظام العربي الرسمي.
 - الثاني: الاستفادة من وجود إسرائيل في ترويج سردية مشروعية التسلل الإيراني في المنطقة العربية. فإيران وصلت لدعم المجاهدين الفلسطينيين وصنعت ذراعًا لها في لبنان ومليشيات في العراق، واليوم على تخوم الأردن وبقايا صواريخها تسقط على أرضه، كل ذلك مشروع ومبرر دفاعًا عن القضية الإسلامية الكبرى "القدس والأقصى"، وليس من قبيل المصادفة والاعتباط أن تكون الوحدة العسكرية الخاصة في الحرس الثوري الإيراني المكلفة بالعمليات العسكرية خارج الحدود الإيرانية والتي تتبع المرشد الإيراني مباشرة، اسمها "فيلق القدس".
 
العرب هم الفراغ المشترك
إن الأمة العربية ليست ممثلة بكيان سياسي واحد يحمل رسالتها ومشروعها ويدافع عن مصالحها. الكيانات السياسية العربية التي تسمى "دولًا مستقلة" هي في واقع الأمر كيانات مشتتة ومتفرقة تهتم بالمصالح المتعلقة بالأنظمة الحاكمة بالدرجة الأولى والأخيرة. وقد نشأت تلك الدويلات في ظل الاستعمار الذي رسم حدودها ووضع أسسها الإدارية والقانونية والاقتصادية. ثم بعد سنوات من تنشئة طبقة من النخب السياسية والفكرية والعسكرية على يد المستعمر نفسه، تم تسليمهم هذه الكيانات التي اعترف بها المستعمر ومنحها "استقلالًا"، واعترف بها عضوًا فيما يسمى المجتمع الدولي. ثم استمر المستعمر في مراقبة أبنائه المتناحرين على السلطة، ويتدخل بخبرته بينهم، ويوجه صراعاتهم حتى استقرت تلك الدويلات على ما يراعي مصالح المستعمر ومعاييره وأطماعه في المنطقة، وكأنه هو بنفسه من يحكمها لكن بتكلفة أقل بكثير.
تسوق الأنظمة العربية تبريرات مختلفة لكل سلوكياتها التي تدمر الأمة العربية. فتارةً تتذرع بالواقعية، مدعيةً أنها تعرف حجمها وحجم عدوها وأنها لا تستطيع مواجهته. وتارةً أخرى تدعي أنها تهتم ببناء نفسها حتى تستطيع مواجهة التحديات المحيطة. وتارةً ثالثة ترفع شعار "الوطن أولًا". وأحيانًا أخرى تدعي أن النمو الاقتصادي هو المدخل لتحقيق القوة في بقية المجالات. هذا، وقد اتخذ بعضها الترفيه وسيلة عصرية لرسم هويته الجديدة للعالم. واستمرت الأنظمة العربية في اختلاق كل التبريرات الممكنة التي تصل إلى حد حرب بعضها بعضًا، حتى وصلت للدفاع عن العدو الإسرائيلي وتزويده بما يحتاج ومحاصرة إخوتنا الفلسطينيين تغليبًا للمصلحة الوطنية. ولا عجب في ذلك، فالشيطان الملعون أيضًا يبرر عصيانه وكبره.
لقد بات العرب وعالمهم الممتد من المحيط إلى الخليج، والذي يعيش فيه ما يفوق 400 مليون عربي، هم الفراغ المشترك الذي يتصارع فيه الجميع. هم الأمة التي تحلق الصواريخ والطائرات فوق رؤوسهم وتسقط شظاياها عليهم وهم يختلفون على من يجب أن يقفوا في صفه ويصفقون له!
إن إيران وإسرائيل، والغرب: أوروبا وأميركا، والشرق: روسيا والصين، جميعها تخوض معاركها في وطننا العربي المستباح على جميع المستويات. وما حالة الضياع والتشتت التي نعيشها كعرب اليوم إلا نتيجة لافتقادنا المشروع والقيادة التي تقود الأمة لتحقيق ذلك المشروع. نحن لا نملك رؤية موحدة كأمة تلتزم بهويتنا وحضارتنا، وتستلهم منها الدور التاريخي الذي افتقدناه منذ قرون حتى وصلنا لهذا الوضع المزري. لن تقوم لنا قائمة كأمة إلا بأن نناقش رؤيتنا الإستراتيجية وأهدافنا في المنطقة والعالم وتأثير سياساتنا ودورها. أما قبل ذلك، فسيكون النقاش والتحليل ضربًا من الوهم أو النكتة السخيفة التي لا تضحك ولا يُستفاد منها.
هذا الجزء الأخير من المقال ليس مجرد خطبة تتأسف على حال العرب، بل هو نظرة موضوعية لوضع بائس لا يمكن أن يُعتمد عليه في تحديد رؤية ولا استحضار أهداف إستراتيجية، ولا يمكن من خلاله تحديد عدو ولا حتى حليف. وضع أشبه بشتات عرب الجاهلية، إلا أنه لا نبي بعد محمد -صلى الله عليه وسلّم- الذي أخبرتنا أمُّنا عائشة رضي الله عنها، قوله: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونيّة وإذا استنفرتم فانفروا".
